محور الأمعاء-الدماغ: اتصال الجسم والعقل
يعرف محور الأمعاء-الدماغ (Gut-Brain Axis) بأنه شبكة اتصال مزدوجة الاتجاه بين الجهاز الهضمي (خاصةً الأمعاء وميكروباتها) والجهاز العصبي المركزي . يربط هذا المحور بين الميكروبيوم المعوي (مجموعة التريليونات من البكتيريا والكائنات الدقيقة في الأمعاء) وبين الدماغ من خلال مسارات عصبية (مثل العصب الحائر)، وإشارات هرمونية، وجهاز المناعة . يلعب محور الأمعاء-الدماغ دورًا حيويًا في تنظيم المزاج والسلوك؛ فقد وجدت الأبحاث أن اختلال توازن بكتيريا الأمعاء يمكن أن يؤثر على كيمياء الدماغ ووظائفه . على سبيل المثال، تنتج بعض بكتيريا الأمعاء مركبات تؤثر على الدماغ مثل الناقلات العصبية (كالسيروتونين والدوبامين وحمض جاما أمينوبوتيريك GABA) والتي تعد أساسية لتنظيم المزاج . كما تسهم البكتيريا النافعة في إنتاج أحماض دهنية قصيرة السلسلة (SCFAs) من تخمير الألياف الغذائية، وهذه الجزيئات الصغيرة يمكنها تقليل الالتهاب في الجسم والتأثير على إنتاج النواقل العصبية في الدماغ .
إن العلاقة بين الأمعاء والصحة النفسية ثنائية الاتجاه؛ فمثلما قد تؤثر حالة الميكروبات المعوية على الحالة المزاجية والسلوك، فإن الضغوط النفسية واضطرابات المزاج قد تغيّر بدورها تركيبة الميكروبيوم المعوي . تشير الدراسات إلى أن خلل التوازن الجرثومي في الأمعاء (حالة تُعرف بـ ** dysbiosis** حيث تطغى البكتيريا الضارة أو يقل تنوع الميكروبات النافعة) يمكن أن يؤدي إلى استجابات مناعية التهابية واضطرابات في إنتاج النواقل العصبية، مما قد يساهم في ظهور القلق أو الاكتئاب . وبالمقابل، قد يؤدي تحسين صحة الأمعاء إلى تأثيرات إيجابية ملحوظة على المزاج. في الأقسام التالية، نستعرض أحدث ما توصل إليه العلم في خمسة محاور بحثية رئيسية تربط الأمعاء بالمزاج، مدعومة بأدلة من دراسات حديثة نُشرت في مجلات علمية مرموقة.
دور الميكروبيوم في اضطرابات المزاج
شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بفهم دور ميكروبات الأمعاء في اضطرابات المزاج مثل الاكتئاب والقلق. تشير مراجعة منهجية حديثة (2025) إلى وجود اختلافات واضحة في تركيبة الميكروبيوم لدى المصابين بهذه الاضطرابات مقارنة بالأصحاء . فمثلًا، وجد الباحثون أن مرضى الاكتئاب يعانون من انخفاض ملحوظ في تنوع الميكروبات النافعة مع ارتفاع نسبي في بعض البكتيريا الضارة من شعبة Firmicutes . في المقابل، ارتبط اضطراب القلق بانخفاض أعداد البكتيريا المنتجة للأحماض الدهنية المفيدة (مثل بكتيريا إنتاج الـ SCFAs) وارتفاع مستوى بكتيريا ممرضة مثل Proteobacteria . كما ارتبطت حالات أخرى بالصحة النفسية بخصائص ميكروبية مختلفة؛ إذ لوحظ في انفصام الشخصية (الشيزوفرينيا) ارتفاع مستويات السموم البكتيرية في الدم (علامة على التهاب مزمن) وانخفاض في بكتيريا نافعة من جنس Lactobacillus . وبالنسبة لاضطراب ثنائي القطب، أظهرت الأدلة حدوث اختلال في نسبة نوعي البكتيريا الرئيسيين بالأمعاء (Firmicutes/Bacteroidetes) لدى المرضى مقارنة بغيرهم .
دُعمت هذه النتائج أيضًا عبر دراسات واسعة النطاق. دراسة حديثة جدًا (Nature Communications, 2025) حللت ميكروبيوم الأمعاء لدى أكثر من 2500 شخص ووجدت ارتباطًا عكسيًا بين تنوع بكتيريا الأمعاء وشدة أعراض الاكتئاب؛ أي كلما قلّ تنوع الميكروبيوم ازدادت حدة الأعراض الاكتئابية . حددت هذه الدراسة عدة أنواع بكتيرية نافعة (خصوصًا من عائلتي Ruminococcaceae وLachnospiraceae) تختلف وفرتها لدى من يعانون من أعراض اكتئاب مرتفعة . على سبيل المثال، كانت بكتيريا Ruminococcaceae (المعروفة بفوائدها للصحة المعوية وإنتاجها لمواد مضادة للالتهاب) منخفضة بشكل واضح لدى من يعانون من الاكتئاب، في حين سُجلت زيادة في بعض أجناس Lachnospiraceae لدى هؤلاء المرضى . هذه الاختلالات تشير إلى أن اضطرابات المزاج ترتبط بحالة عدم توازن ميكروبي في الأمعاء؛ وهو ما يسمى شعبيًا “عدم توازن بكتيري” أو dysbiosis. ورغم أن العلاقة السببية لا تزال قيد البحث، هناك دلائل تجريبية قوية على أن الميكروبيوم يمكن أن يسهم فعليًا في نشوء اضطرابات المزاج. ففي تجربة مختبرية فريدة، قام باحثون بأخذ ميكروبات أمعاء من أشخاص مصابين بالاكتئاب وزرعها في فأران خالية من الجراثيم، فظهرت على الفئران سلوكيات شبيهة بأعراض الاكتئاب مما يشير إلى دور سببي لهذه الميكروبات في توليد تلك الأعراض . هذه النتائج مجتمعةً تعزز الفكرة بأن الميكروبيوم المعوي أحد العوامل المفتاحية في الصحة النفسية، وقد يكون هدفًا علاجيًا واعدًا في المستقبل .
تأثير البروبيوتيك والبريبيوتيك على المزاج
مع تنامي فهمنا لدور الميكروبات في الصحة النفسية، ظهر اتجاه بحثي جديد يدرس العلاجات الميكروبية لتحسين المزاج، وخاصة البروبيوتيك(معينات حيوية: مكملات من البكتيريا النافعة الحية) والبريبيوتيك (مغذيات للأمعاء: ألياف تغذي البكتيريا النافعة). يُطلَق على بعض هذه الميكروبات النافعة مصطلح “سايكوبايوتيك Psychobiotics” لقدرتها المفترضة على تحسين الصحة النفسية عبر الأمعاء . وقد تزايدت الدراسات عالية الجودة التي تختبر فعالية هذه المكمِّلات في تخفيف أعراض الاكتئاب والقلق.
أظهرت تحليلات تلوية (Meta-analyses) حديثة نتائج مشجعة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، تحليل تلوي عام 2025 شمل نتائج عدة تجارب عشوائية محكمة (عدد المشاركين الإجمالي حوالي 4295) خلص إلى أن تناول البروبيوتيك والبريبيوتيك أدى إلى انخفاض ملحوظ في أعراض كل من القلق والاكتئاب مقارنةً بالدواء الوهمي . قدّرت هذه الدراسة حجم التأثير بحوالي 0.29 (SMD≈0.29) لكل من القلق والاكتئاب، مما يعني تحسنًا معتدًا به إحصائيًا وإن كان متوسط الشدة . كما وجد نفس التحليل تحسنًا في الوظائف الإدراكية لدى من تناولوا تلك المكملات مقارنة بغيرهم (حجم تأثير ~0.48) ، مما يشير إلى أن فوائد تعديل الميكروبيوم قد تتجاوز المزاج لتشمل جوانب معرفية أيضًا. وفي خلاصة هذه المراجعة التلوية، أكد الباحثون أن أحدث الأدلة تدعم فعالية البروبيوتيك في تخفيف أعراض الاكتئاب والقلق – خاصة لدى الأفراد الذين يعانون من أعراض خفيفة إلى متوسطة – على الرغم من التفاوت بين الدراسات .
على صعيد التجارب السريرية المفردة، هناك أمثلة بارزة تدعم هذه النتائج. تجربة سريرية عشوائية محكمة حديثة (Nature – Translational Psychiatry, 2022) اختبرت إضافة مزيج عالي الجرعة من البروبيوتيك (يحتوي على 8 سلالات نافعة بجرعة 900 مليار وحدة يوميًا) إلى العلاج التقليدي لمصابين بالاكتئاب. بعد 4 أسابيع فقط، سجّل مرضى مجموعة البروبيوتيك تحسنًا أكبر في أعراض الاكتئاب مقارنةً بالمجموعة التي تلقت علاجًا تقليديًا مع دواء وهمي . الأهم أن التحسن لم يكن شعوريًا فقط، بل وُجد أيضًا أن البروبيوتيك حافظ على توازن الميكروبيوم الصحي لدى المرضى، حيث زاد تنوع البكتيريا المفيدة لدى مجموعة البروبيوتيك بينما لوحظ تراجع هذا التنوع في مجموعة الدواء الوهمي . كما أشارت فحوص التصوير الدماغي الوظيفي في هذه الدراسة إلى تغيّرات إيجابية في معالجة الدماغ للعواطف لدى من تناولوا البروبيوتيك، مما يوحي بأن التأثير امتد إلى تحسين الأنماط العصبية المرتبطة بالمشاعر السلبية .
ولا يقتصر الأمر على البروبيوتيك وحدها؛ إذ تُظهر الدراسات أيضًا أن البريبيوتيك – كالألياف الخاصة التي تغذي البكتيريا النافعة – قد يكون لها أثر إيجابي على صحة الدماغ عبر تحسين بيئة الأمعاء. على سبيل المثال، وجدت دراسة عيادية عام 2023 على طلاب جامعيين أن تناول سلالة معينة من بكتيريا Lactobacillus plantarum (وهي نوع بروبيوتيك يوجد أيضًا في اللبن والمخللات) أدى إلى تحسن في جودة النوم وتخفيف أعراض الأرق والاكتئاب لدى المشاركين . وفي تجربة أخرى مزدوجة التعمية، أدى تناول مكمل البريبيوتيك (سكريات مانان من الخميرة) لمدة 4 أسابيع إلى تحسين صحة الأمعاء وجودة النوم لدى بالغين أصحاء . ربط الباحثون هذا التحسن بزيادة إنتاج الأمعاء لبعض النواقل العصبية والمستقلبات المفيدة مثل حمض البروبيونيك وGABA وهرمون السيروتونين، مما يشير إلى آلية عمل محتملة عبر تعزيز إشارات مهدئة من الأمعاء إلى الدماغ .
جدير بالذكر أن التدخلات الغذائية أيضًا تعتبر شكلاً من أشكال تعديل الميكروبيوم. فقد أشارت المراجعة المنهجية المذكورة آنفًا أن التغييرات الغذائية (كنظام غذائي صحي غني بالألياف والمتنوع) مع تناول البروبيوتيك قد حققت في بعض الدراسات فعالية مقاربة للأدوية المضادة للاكتئاب في تحسين الأعراض لدى عدد من المرضى . هذه النتيجة مهمة لأنها تؤكد أن استهداف ميكروبيوم الأمعاء يعد نهجًا علاجياً واعدًا يمكن أن يكمل (وأحيانًا يضاهي) العلاجات التقليدية للمزاج . بالطبع، ما زال هناك تباين في نتائج الدراسات بسبب اختلاف سلالات البروبيوتيك وجرعاتها وتركيبة الميكروبيوم الأولية لدى كل فرد ؛ لذا يوصي العلماء بإجراء مزيد من الأبحاث لتحديد العوامل المثلى (السلالة/الجرعة/مدة العلاج) لضمان أقصى فائدة علاجية لكل حالة. ومع ذلك، فإن مجمل الأدلة حتى الآن مشجّع ويشير إلى أن البروبيوتيك والبريبيوتيك أدوات آمنة نسبيًا ويمكن أن تكون علاجات مُساندة مفيدة لتحسين المزاج وتقليل التوتر والقلق بدون آثار جانبية تذكر في معظم الحالات .
الالتهابات المعوية وصحة الدماغ
تلعب الاستجابات الالتهابية دورًا مهمًا كوسيط بين صحة الأمعاء وصحة الدماغ. فعندما يحدث التهاب مزمن في الأمعاء – نتيجة عدوى، أو أمراض معوية التهابية كمرض كرون والتهاب القولون التقرحي، أو حتى بسبب سوء التغذية – يمكن أن تتسرب مواد التهابية إلى مجرى الدم وتصل إلى الدماغ، مؤثرةً على الوظيفة العصبية والمزاج. تشير أبحاث حديثة إلى أن مرضى الأمراض المعوية الالتهابية (IBD) غالبًا ما يعانون من معدلات أعلى من الاكتئاب والقلق مقارنةً بغيرهم . العلاقة هنا ثنائية الاتجاه أيضًا: فالتهاب الأمعاء المزمن قد يسبب اضطرابات نفسية، وفي الوقت نفسه يمكن أن تسهم الحالة النفسية المتردية في تفاقم أعراض الأمعاء الالتهابية – مما يخلق حلقة مفرغة من التأثيرات المتبادلة . على سبيل المثال، أظهرت دراسة تتبعية واسعة في المملكة المتحدة أن مرضى IBD لديهم خطر أعلى للإصابة بالاكتئاب خلال السنوات التالية لتشخيصهم مقارنة بعامة الناس . كما تتأثر النساء المصابات بأمراض الأمعاء الالتهابية نفسيًا بشكل خاص، ربما بسبب عوامل مناعية وهرمونية تجعل الإناث أكثر عرضة للقلق والاكتئاب المصاحب للالتهاب .
من الناحية البيولوجية، يمكن للالتهاب المعوي أن يؤثر على الدماغ بعدة طرق. عند حدوث التهاب في جدار الأمعاء (بسبب عدوى أو زيادة نفاذية ما يسمى “الأمعاء المتسربة”)، يتم إفراز سيتوكينات التهابية (كمواد Interleukins وTNF-α وغيرها) تنتقل عبر الدورة الدموية. هذه المواد لديها القدرة على اختراق الحاجز الدموي-الدماغي والتأثير على خلايا الدماغ المناعية (خلايا ميكروجليا)، مما يؤدي إلى حالة تُسمى الالتهاب العصبي (Neuroinflammation) . والالتهاب العصبي بدوره مرتبط بقوة بظهور أعراض الاكتئاب: فهناك مفهوم يعرف بـ”سلوك المرض” (sickness behavior) يصف كيف أن ارتفاع عوامل الالتهاب في الجسم يولد شعورًا بالخمول والحزن وفقدان المتعة – وهي أعراض تشبه الاكتئاب . وهذا يُفسّر جزئيًا لِمَ قد يشعر المرء بالاكتئاب أثناء الأمراض الالتهابية كالإنتانات الشديدة أو الإنفلونزا.
تدعّم الدراسات قبل السريرية هذه الفكرة أيضًا. في نماذج حيوانية، تبيَّن أن إحداث التهاب معوي تجريبي في الفئران (عبر مواد مهيجة مثل DSS لإحداث التهاب قولوني) يؤدي إلى تغيرات جينية في الدماغ مرتبطة بالمزاج. في إحدى الدراسات، تسببت الكوليت التجريبي في الفئران بارتفاع تعبير جينات مرتبطة بالالتهاب العصبي مثل Lcn2 وبروتينات مناعية أخرى في مراكز دماغية تتحكم بالعاطفة . والأهم أنه عند تثبيط عمل أحد هذه الجزيئات الالتهابية (Lcn2) تحسنت السلوكيات الشبيهة بالاكتئاب لدى الفئران ، مما يقدم دليلًا سببيًا على أن الالتهاب المنقول من الأمعاء إلى الدماغ يمكن أن يساهم فعليًا في توليد أعراض اكتئابية. كذلك أظهرت أبحاث أُخرى أن حقن حيوانات التجارب بمكونات من جدران بكتيريا الأمعاء (مثل اللايبوپوليسكّاريد LPS) يحفز استجابة التهابية واسعة ويتبعها ظهور سلوكيات شبيهة بالاكتئاب والقلق لدى تلك الحيوانات . هذه النتائج مجتمعةً تشير إلى أن الالتهاب المعوي قد يكون حلقة وصل مهمة تفسر كيف يمكن لاعتلال صحة الأمعاء أن يؤدي إلى اعتلال المزاج.
من منظور سريري، بدأ العلماء باختبار ما إذا كان خفض الالتهاب يمكن أن يُخفف من أعراض الاكتئاب. بعض التجارب السريرية لاستخدام أدوية مضادة للالتهاب (مثل مثبطات السيتوكينات) في مرضى الاكتئاب المقاوم للعلاج التقليدي أظهرت نتائج واعدة بتحسن الحالة المزاجية لدى فئة فرعية من المرضى الذين كان لديهم مستوى التهابي مرتفع . كما أن الأنظمة الغذائية المضادة للالتهاب (الغنية بالأسماك الدهنية ومضادات الأكسدة مثلاً) ارتبطت بتحسن المزاج في بعض الدراسات السكانية . وبالعكس، فإن تناول الأغذية المصنعة بكثرة (الغنية بالسكريات والدهون غير الصحية) ارتبط بارتفاع عوامل الالتهاب وبنسب أعلى من اضطرابات الاكتئاب والقلق . لكل ذلك، يتضح أن الحفاظ على صحة الأمعاء وتقليل الالتهابات فيها ليس مهمًا فقط لصحة الجهاز الهضمي، بل قد يكون عاملًا أساسيًا للوقاية من الاضطرابات النفسية وتحسينها. إن الربط بين الالتهاب والاكتئاب وسيلة لدمج صحة الجسم بصحة العقل، حيث يؤكد العلم الحديث مرة أخرى أن “العقل السليم في الجسم السليم” ليست مجرد مقولة بل حقيقة بيولوجية يمكن تفسيرها عبر محور الأمعاء-الدماغ.
التفاعل العصبي والهرموني بين الأمعاء والدماغ
يتواصل الدماغ والأمعاء عبر قنوات متعددة تشمل الإشارات العصبية المباشرة والرسائل الهرمونية والإشارات المناعية. فهم هذه التفاعلات العصبية-الهرمونية ضروري لتقدير كيف يؤثر كل من الجهازين على الآخر. أحد أبرز هذه المسارات هو العصب المبهم (الحائر)، وهو العصب الرئيسي الذي ينقل المعلومات بين الدماغ وأعضاء الجهاز الهضمي. يحمل العصب المبهم إشارات حسية من الأمعاء (حول حالة الامتلاء والهضم وحتى تركيبة الميكروبات) إلى الدماغ، وفي الاتجاه المعاكس يحمل تعليمات من الدماغ يمكن أن تؤثر على حركة الأمعاء وإفراز الهرمونات الهضمية . هذا الاتصال العصبي يفسر مثلاً الشعور بـ”آلام المعدة” عند التوتر أو الإحساس بالفراشات في البطن عند القلق، حيث تؤدي إشارات الدماغ إلى تغييرات فورية في حركة الأمعاء وإفرازاتها.
من جهة أخرى، يعتمد التواصل الهرموني على مواد كيميائية يفرزها الجسم وتنتقل عبر الدم لتربط بين الأمعاء والدماغ. جهاز الغدد الصم العصبية، وخاصةً محور تحت المهاد-الغدة النخامية-الكظرية (HPA axis)، يلعب دورًا رئيسيًا في استجابة الجسم للضغط النفسي. عند التعرض للإجهاد أو القلق، ينشط محور HPA ويؤدي إلى إفراز هرمونات التوتر (مثل الكورتيزول). هذه الهرمونات يمكنها التأثير على الأمعاء عن طريق تغيير حركة الجهاز الهضمي وزيادة نفاذية جدار الأمعاء وحتى تغيير تركيبة الميكروبيوم نفسها . في المقابل، إذا كانت الأمعاء بحالة التهاب أو اضطراب، فإن إشارات مناعية من الأمعاء (كالسيتوكينات) يمكن أن تنشط محور HPA وتزيد من مستويات الكورتيزول، مما قد يساهم في الشعور بالتوتر أو الاكتئاب. وهكذا يتضح أن الاستجابة للضغط النفسي مرتبطة بالجهتين: فالإجهاد يؤثر على الأمعاء، واضطراب الأمعاء يؤثر على نشاط محور التوتر في الدماغ .
أما على مستوى الناقلات العصبية، فقد ذكرنا أن السيروتونين والدوبامين وGABA من أهم المواد الكيميائية التي تنظم المزاج. المدهش أن حوالي 90% من السيروتونين في الجسم يُنتَج في الجهاز الهضمي (في خلايا متخصصة في جدار الأمعاء تسمى خلايا الكروموفين) . تقوم بكتيريا الأمعاء بدور أساسي في تنظيم إنتاج هذا السيروتونين المعوي عبر التأثير على إنزيمات التصنيع . صحيح أن السيروتونين المنتج في الأمعاء لا يعبر مباشرة إلى الدماغ (لأنه لا يقطع الحاجز الدموي-الدماغي)، لكنه يؤثر على الأعصاب المعوية وبالتالي يرسل إشارات غير مباشرة للدماغ عبر العصب المبهم. بالإضافة إلى ذلك، تؤثر ميكروبات الأمعاء على كمية التريبتوفان (الحامض الأميني السابق للسيروتونين) المتاحة للوصول إلى الدماغ، وبالتالي تتحكم في مقدار تصنيع السيروتونين المركزي . وبجانب السيروتونين، بعض بكتيريا الأمعاء قادرة فعليًا على إفراز نواقل عصبية. على سبيل المثال، أنواع من Enterococcus وEscherichia قادرة على إفراز السيروتونين نفسه، وبعض أنواع Bacillus وSerratia تفرز دوبامين . كما أن عدة سلالات من بكتيريا Bifidobacterium وLactobacillus تنتج GABA في الأمعاء . هذه النواقل العصبية المفرزة في الأمعاء قد لا تصل كلها للدماغ، لكنها تستطيع التأثير على النهايات العصبية للعصب المبهم أو خلايا جهاز المناعة المعوية التي بدورها تنقل التأثير للدماغ.
بجانب ذلك، تتحكم إشارات الأمعاء في إفراز مجموعة من الهرمونات المعوية (مثل الجريلين والببتيد YY وغيرها) التي تنتقل في الدم وتصل إلى مراكز الشهية والمزاج في الدماغ. على سبيل المثال، هرمون الجريلين المعروف بهرمون الجوع يؤثر أيضًا على المزاج وله خصائص مضادة للاكتئاب عند مستويات معينة وفق بعض الدراسات . أيضًا يفرز الجهاز العصبي المعوي نفسه (الذي يحوي 100 مليون عصبون بجدار الأمعاء) مواد كيميائية مرتبطة بالعاطفة مثل الأستيل كولين التي تساهم في الشعور بالراحة عند الهضم الجيد .
إجمالًا، يمكن القول إن التفاعل العصبي والهرموني بين الأمعاء والدماغ معقد ومتشابك؛ فالأمعاء بمثابة “الدماغ الثاني” الذي ينتج إشارات تؤثر على الحالة النفسية، والدماغ بدوره يعدّل وظائف الأمعاء بحسب الحالة العاطفية. هذه الشبكة المزدوجة تضمن تكيّف الجسم مع مختلف الظروف، لكنها أيضًا تعني أن أي خلل في جانب قد ينعكس على الآخر. فهمنا اليوم لهذه الآليات – كتأثير الميكروبات على الناقلات العصبية، ودور العصب الحائر، ومحور التوتر – يفتح آفاقًا جديدة لعلاج الاضطرابات النفسية ليس فقط عبر الأدوية التقليدية التي تستهدف الدماغ مباشرة، بل أيضًا عبر التدخل في البيئة المعوية والجسمية ككل.
التغذية النفسية: دور الغذاء في صحة العقل
برز مجال التغذية النفسية (Nutritional Psychiatry) حديثًا لفهم كيف تؤثر جودة الغذاء والنظام الغذائي على الصحة النفسية والمزاج. ليس مفاجئًا أن نوعية الحمية الغذائية التي نتبعها يمكن أن تنعكس بقوة على شعورنا النفسي، وذلك عبر تأثير النظام الغذائي على الميكروبيوم المعوي وعلى عمليات الاستقلاب والالتهاب في الجسم . أظهرت دراسات رصدية واسعة أن اتباع حمية صحية متوازنة غنيّة بالخضروات والفواكه والحبوب الكاملة والأسماك والدهون المفيدة (مثل حمية البحر الأبيض المتوسط) يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب وتحسن عام في الصحة النفسية . في المقابل، ارتبطت الأنظمة الغذائية عالية المحتوى من الأطعمة المُصنّعة والسكريات والدهون المشبعة بارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق وضعف الوظائف الإدراكية . على سبيل المثال، تحليل تلوي عام 2022 شمل 17 دراسة رصدية (385 ألف مشارك) وجد أن الاستهلاك المرتفع للأطعمة فائقة المعالجة يرتبط بزيادة احتمالية ظهور أعراض الاكتئاب والقلق بحوالي 53% مقارنة بمن يتناولون القليل منها . وبالمقابل، تناول كميات أكبر من الخضروات والفواكه ارتبط بتحسّن مؤشرات الصحة النفسية وتقليل معدلات الاكتئاب في مراجعات منهجية حديثة .
الأدلة الأكثر قوةً تأتي من تجارب معشاة محكمة اختبرت ما إذا كان تحسين النظام الغذائي يمكن أن يساعد في علاج الاكتئاب. إحدى أوائل هذه التجارب كانت دراسة أسترالية معروفة باسم تجربة “SMILES” (عام 2017)، والتي قارن فيها الباحثون بين مجموعة مرضى اكتئاب تلقوا برنامجًا غذائيًا صحيًا (نموذجي لحمية البحر المتوسط) لمدة 12 أسبوعًا، ومجموعة أخرى تلقت دعمًا اجتماعياً ومشورة دون تغيير غذائي. كانت النتائج ملفتة: حوالي 32% من مرضى المجموعة الغذائية حصلوا على تحسّن كبير وصل إلى مرحلة تعافي تام من الاكتئاب (اختفاء الأعراض) خلال 3 أشهر، مقابل 8% فقط في مجموعة الدعم دون تغيير غذائي . إضافة لذلك، شهدت المجموعة التي حسّنت نمط غذائها تراجعًا أكبر في أعراض القلق وتحسنًا في النشاط اليومي مقارنة بالمجموعة الضابطة . هذه الدراسة كانت حجر الأساس لبحوث التغذية النفسية، إذ أثبتت لأول مرة عبر تجربة سريرية أن التدخل الغذائي يمكن أن يكون علاجًا فعّالًا للاكتئاب لدى بعض المرضى.
تلتها بعد ذلك عدة تجارب سريرية في بلدان مختلفة (أستراليا وأوروبا وأمريكا) أكدت الصورة العامة. وبهدف تجميع هذه الأدلة، قام علماء بإجراء تحليل تلوي شامل (2019) شمل 16 تجربة عشوائية محكمة تدرس تأثير التدخلات الغذائية على أعراض الاكتئاب . تضمنت هذه التجارب أكثر من 45 ألف مشارك (معظمهم من غير المصابين باكتئاب سريري شديد وإنما يعانون من أعراض أو عوامل خطر). وجدت المراجعة أن التدخلات الغذائية أدت إلى انخفاض واضح في أعراض الاكتئاب مقارنة بالأنظمة غير الصحية أو الرعاية الاعتيادية . كان حجم الأثر الإيجابي للتغذية المحسنة صغيرًا إلى متوسط (Hedges’ g ≈ 0.16-0.22) لكنه دال إحصائيًا . المثير للاهتمام أن هذه الفائدة ظهرت سواء قورنت الحمية الصحية مع عدم تدخل (مجموعة ضابطة سلبية) أو مع حمية أخرى أقل صحة (كمجموعة ضابطة نشطة) ، مما يعزز مصداقية التأثير. أما بالنسبة للقلق، فلم تجد المراجعة تأثيرًا واضحًا للتدخل الغذائي وحده على أعراض القلق – ربما لأن دراسات القلق كانت أقل عددًا أو أن القلق يتأثر بعوامل أخرى أكثر من الاكتئاب.
وتتوافق هذه النتائج مع فهمنا للآليات البيولوجية: فالغذاء الصحي يغذي الميكروبيوم النافع بالأمعاء ويقلل العمليات الالتهابية، ويوفر للدماغ العناصر اللازمة لإنتاج النواقل العصبية بكفاءة (مثل الفيتامينات B9,B12، وأحماض أوميغا-3 الدهنية، والأحماض الأمينية الأساسية). على سبيل المثال، حمية البحر المتوسط غنية بمضادات الأكسدة والألياف وأوميغا-3، وقد تبين أنها تقلل من علامات الالتهاب في الجسم وترفع مستوى بعض عوامل التغذية العصبية في الدماغ . كما أن التقليل من السكريات البسيطة والأطعمة المكررة يساعد على استقرار نسبة السكر في الدم ويمنع التقلبات المزاجية الحادة ويحمي الميكروبيوم من النمو الزائد للبكتيريا الضارة التي تتغذى على السكر .
خلاصة القول، أصبحت التغذية ركنًا أساسيًا من أركان العناية بالصحة النفسية. لم يعد تناول الطعام الصحي مجرد نصيحة عامة، بل بات مدعومًا بدراسات علمية تظهر كيف يمكن لما نأكله أن يؤثر على شعورنا النفسي يومًا بعد يوم. وهذا يقودنا إلى السؤال: ما الذي يعنيه كل ذلك لحياتنا اليومية؟ وكيف يمكن للفرد الاستفادة من هذه المعرفة العلمية لتحسين مزاجه وصحته النفسية؟
انعكاس النتائج على الحياة اليومية
إن الفهم العلمي للعلاقة بين الأمعاء والمزاج يقدّم لنا منظورًا جديدًا للعناية بالصحة النفسية في الحياة اليومية. أول ما تؤكده هذه البحوث هو أهمية تبنّي نظرة شمولية للجسم والعقل؛ فليس العقل كيانًا منعزلًا يعمل بمعزل عن بقية الجسم، بل هناك شبكة تواصل مستمرة تربط بين الحالة الجسدية (خاصةً صحة الجهاز الهضمي) وبين المشاعر والحالة الذهنية . على المستوى العملي، هذا يعني أن العادات اليومية التي نحافظ بها على صحة أمعائنا قد تنعكس مباشرة على مزاجنا وعافيتنا النفسية. وقد أثبتت الأبحاث أنه كلما كان نمط حياتنا داعمًا لصحة الأمعاء – من غذاء صحي متوازن، ونشاط بدني منتظم، ونوم كافٍ، وتحكم في التوتر – تحسّنت الصحة النفسية والمعرفية بالتوازي .
فعلى سبيل المثال، عندما نعاني من إجهاد أو توتر نفسي مزمن في العمل أو الحياة، فإن الأعراض قد لا تقتصر على الحالة الذهنية (كالقلق أو الأرق) بل تمتد إلى الجهاز الهضمي مسببّةً مشاكل مثل القولون العصبي أو اضطراب الهضم . وهنا تفيدنا الدراسات بأن التعامل مع التوتر عبر تقنيات الاسترخاء ليس ترفًا، بل يمكن أن يحسّن فعليًا من صحة الأمعاء وبالتالي يخفف دائرة التوتر والاعتلال المزاجي . في المقابل، أي اضطراب مزمن في الأمعاء (كعسر الهضم المتكرر، أو متلازمة القولون المتهيج، أو التهاب الأمعاء) قد يكون عامل ضغط على الدماغ ويساهم في أعراض مثل التعب أو الاكتئاب . لذلك يُنصح من يعانون من مشاكل هضمية مستمرة ألا يهملوا تأثيرها على صحتهم النفسية؛ فمعالجة تلك المشاكل – سواء بتغيير الحمية أو بالعلاج الطبي المناسب – قد تؤدي ليس فقط لتحسين الأعراض الجسدية بل أيضًا لتحسّن ملحوظ في المزاج ونوعية الحياة. وقد وردت تقارير عن مرضى قلّ عندهم شعور القلق والاكتئاب بعد التحكم بأعراض القولون العصبي مثلًا، مما يدعم أثر العناية بصحة الجهاز الهضمي على الشعور النفسي .
كما تعلّمنا هذه البحوث درسًا مهمًا حول الوقاية: فربما نستطيع الحد من مخاطر اضطرابات المزاج عبر تبني نمط حياة صحي يدعم الميكروبيوم ويقلل الالتهاب حتى قبل أن تبدأ الأعراض. فالشخص السليم يمكنه على الأقل أن يقي نفسه من بعض الاضطرابات أو يخفف حدتها من خلال خياراته الغذائية واليومية. مثلًا، تناول وجبات غنية بالألياف وبكتيريا البروبيوتيك الطبيعية (كالزبادي والأطعمة المخمرة) يمكن أن يعزّز تنوع الميكروبيوم ويقوّي “حصانة” الدماغ ضد عوامل التوتر . على العكس، الإفراط في الوجبات السريعة والمشروبات المحلاّة قد يعرّض المرء لخلل بكتيري في أمعائه مصحوب بزيادة في المؤشرات الالتهابية، مما قد يجعل مزاجه أكثر اضطرابًا ويزيد قابلية الإصابة بالاكتئاب على المدى الطويل . إذًا، الرسالة الأساسية هي أن ما نفعله يوميًا يصنع فرقًا؛ وصحة أمعائنا هي انعكاس لعاداتنا، والتي تنعكس بدورها على صحتنا النفسية.
فضلًا عن ذلك، توسّع هذه النتائج وعي الأفراد تجاه مسؤوليتهم عن صحتهم النفسية. فإدراك أن تغيير نمط الغذاء أو ممارسة الرياضة أو تحسين النوم قد يكون له تأثير مماثل (أو مكمّل) لتأثير الأدوية على المزاج يمنح الأشخاص أدوات إضافية للعناية بأنفسهم. وهذا لا يعني أبدًا التقليل من أهمية العلاجات النفسية التقليدية (كالدواء أو العلاج السلوكي)، بل يعني أننا يمكن أن ندعم تلك العلاجات ونزيد فعاليتها عبر نهج شامل يهتم بصحة الأمعاء والجسم عمومًا . مثلًا، مريض يتناول مضادًا للاكتئاب قد يجد تحسنًا أكبر وأسرع إذا تزامن ذلك مع اتباع حمية مضادة للالتهاب وتناول مكمل بروبيوتيك وممارسة التأمل، مقارنةً بتناول الدواء وحده. هذه المقاربة التكاملية للعلاج بدأت تكتسب اعترافًا في الأوساط الطبية (حتى أن بعض الأبحاث في جامعات مرموقة كـ هارفارد وستانفورد تدرس تطبيق التأمل واليوغا والحمية لعلاج اضطرابات الجهاز الهضمي والمزاج معًا )، وهي تعكس فهمًا أعمق لكيفية تفاعل نظم الجسم مع بعضها البعض.
وخلاصة الانعكاس اليومي: لم يعد الاهتمام بصحة الأمعاء أمرًا منفصلًا عن الاهتمام بالصحة النفسية. فكلاهما وجهان لعملة واحدة هي الصحة الكلية للفرد. وعندما نغذي ميكروبات أمعائنا بغذاء صحي ونحفزها بنشاط وحركة ونهدئها بإدارة التوتر، فإننا في الواقع نغذي عقولنا ونمنحها أسبابًا كيميائية وبيولوجية للشعور بشكل أفضل. هذا الفهم يمكّن كل فرد من اتخاذ خطوات واعية نحو حياة أكثر اتزانًا وسعادةً من الداخل (حرفيًا، من أمعائه) والخارج.
خطوات عملية لتحسين صحة الأمعاء والمزاج
بعد استعراض المعلومات العلمية أعلاه، قد يتساءل القارئ: “حسنًا، ماذا يمكنني أن أفعل بشكل عملي لأستفيد من هذا الترابط بين أمعائي ومزاجي؟” فيما يلي بعض الخطوات التطبيقية المبنية على أحدث الأبحاث، يمكن للقارئ تجربتها في حياته اليومية لتحسين صحة ميكروبيوم الأمعاء وبالتالي دعم صحته النفسية:
-
اتباع نظام غذائي غني بالألياف ومضادات الأكسدة: اجعل أساس غذائك الفواكه والخضروات الطازجة والحبوب الكاملة والبقوليات والمكسرات والأسماك الدهنية. هذه الأطعمة غنية بالألياف التي تغذي البكتيريا النافعة في أمعائك وتزيد من تنوعها، كما أنها مليئة بالعناصر المضادة للالتهاب . على سبيل المثال، حمية البحر الأبيض المتوسط التي تتضمن زيت الزيتون والخضروات الورقية والفواكه المتنوعة ارتبطت بتحسن المزاج وانخفاض معدلات الاكتئاب . بالمقابل، حاول التقليل قدر الإمكان من الأطعمة المصنعة والسكريات المضافة والمشروبات الغازية والوجبات السريعة؛ فتلك ارتبطت علميًا بخلل في الميكروبيوم وزيادة في مؤشرات الالتهاب وكذلك تدهور في الصحة النفسية بمرور الوقت .
-
إدراج البروبيوتيك والبريبيوتيك في روتينك الغذائي: يمكنك دعم أمعائك عن طريق تناول مصادر البروبيوتيك الطبيعية كاللبن (الزبادي) واللبن الرائب والكفير والمخللات التقليدية (كالكيمتشي ومخلل الملفوف) التي تحتوي على بكتيريا نافعة حية. كذلك تناول أطعمة غنية بالبريبيوتيك (أي الألياف التي تغذي البكتيريا النافعة) مثل الثوم والبصل والكراث والهليون والموز والشوفان. إذا لم يكن نظامك الغذائي يوفر ما يكفي، ففكر في استشارة مختص حول مكملات البروبيوتيك المتوفرة بالصيدليات. تشير الدراسات الحديثة إلى أن المكملات البروبيوتيكية يمكن أن تحسّن بالفعل من أعراض القلق والاكتئاب لدى البعض ، مع نسبة أمان عالية (آثار جانبية قليلة أو معدومة) . مثلاً، قد تختار مكملًا يحتوي على سلالات مدروسة مثل Lactobacillus وBifidobacterium التي أظهرت فوائد في تحسين المزاج. تذكّر أن الفائدة القصوى للبروبيوتيك تتحقق عند تناوله بانتظام لعدة أسابيع على الأقل، وأن تأثيره قد يختلف من شخص لآخر تبعًا لتركيبة ميكروبيومه الأصلية .
-
التعامل مع التوتر والضغط النفسي بفعالية: الصحة النفسية وصحة الأمعاء مترابطتان بشدة، والضغط المزمن عدو لكليهما. لذا إدراج تقنيات خفض التوتر في حياتك يمكن أن يحسّن مزاجك وأيضك الهضمي معًا. جرّب تمارين الاسترخاء الذهني مثل التأمل (Meditation) أو اليقظة الذهنية (Mindfulness)، ومارس تمارين التنفس العميق لبضع دقائق يوميًا لتهدئة جهازك العصبي. أظهرت بحوث كثيرة – منها دراسات من جامعات مرموقة – أن تقنيات العقل-الجسد هذه تخفف من أعراض القولون العصبي ومشاكل الهضم، وتؤدي كذلك إلى تحسن ملحوظ في الحالة المزاجية ومستويات القلق والاكتئاب . أيضًا ممارسة اليوغا أو التمارين الخفيفة بانتظام تفيد في تحسين حركة الأمعاء وتقليل التوتر. إذا كنت تواجه صعوبة في البدء، يمكنك الانضمام لفصول أو استخدام تطبيقات للمساعدة على الالتزام بتقنية استرخاء تناسبك. الفكرة هي أن تهدئة العقل تخفف العبء عن الأمعاء، وراحة الأمعاء تعطي إشارات إيجابية للدماغ في حلقة إيجابية معاكسة لحلقة التوتر المفرغة.
-
الحفاظ على عادات نوم صحية وممارسة النشاط البدني: لا تنسَ الأسس العامة للصحة، فهي أيضًا تصب في صالح محور الأمعاء-الدماغ. حاول الحصول على 7-8 ساعات من النوم الليلي الجيد بانتظام، فالنوم ضروري لإتاحة الفرصة لميكروبات الأمعاء لإعادة التوازن (هناك إيقاع يومي لنشاط الميكروبيوم يتأثر بنومك واستيقاظك). دراسات حديثة على مصابي الأرق وجدت أن تحسين النوم – حتى عبر تدخلات غير دوائية كبروبيوتيك – ترافق مع تحسن في المزاج أيضًا . إضافة لذلك، احرص على النشاط الجسدي المنتظم (مثل المشي السريع 30 دقيقة معظم أيام الأسبوع)، إذ أن الرياضة الخفيفة تدعم التنوع الميكروبي في الأمعاء وترفع مستويات مواد مفيدة مضادة للالتهاب، وتُفرز في نفس الوقت هرمونات السعادة في الدماغ مثل الإندورفين. بذلك تكون قد ضربت عصفورين بحجر واحد: رياضة لأجل اللياقة البدنية وأجل الصحة النفسية في آنٍ واحد.
-
استشارة الطبيب عند الحاجة ومعالجة المشكلات الهضمية والصحية الكامنة: إن كنت تعاني من أعراض هضمية مزمنة (مثل آلام البطن المتكررة، أو إسهال/إمساك مزمن، أو ارتجاع معدي مريئي شديد، إلخ) فلا تتجاهلها. قد تكون هذه علامة على حالة كامنة كمتلازمة القولون العصبي أو حساسية غذائية أو التهاب أمعاء، وهذه الحالات ترتبط كثيرًا بتقلبات المزاج وزيادة القلق . علاج المشكلة من أساسها سيساهم في راحة أمعائك وبالتالي في استقرار حالتك النفسية. على سبيل المثال، اتباع حمية منخفضة الـFODMAP تحت إشراف مختص ساعد كثيرًا من مرضى القولون العصبي على تخفيف الأعراض الهضمية وتحسين جودة الحياة ، وهذا غالبًا ما ترافق مع انخفاض مستوى التوتر والقلق لديهم. كذلك إذا شخّصك الطبيب بحالة مرضية كعدم تحمل اللاكتوز أو مرض سيلياك (حساسية القمح)، فإن الالتزام بالعلاج الغذائي المناسب سيزيل عاملًا مهيجًا كان يؤثر سلبًا على أمعائك ومن ثم مزاجك. أيضًا استشر طبيبك قبل البدء في مكملات جديدة أو تغييرات كبيرة في نظامك خاصةً إن كنت تتناول أدوية، لضمان عدم حدوث تفاعلات أو آثار غير مرغوبة. تذكّر أن الرعاية الطبية الشاملة التي تجمع بين علاج الجسم ودعم النفس هي النهج الأمثل لتحقيق عافية مستدامة.
باتباع هذه الخطوات العملية – بتدرج وبما يتناسب مع ظروفك – يمكنك الانتقال من المعرفة إلى التطبيق، وتسخير فهم محور الأمعاء-الدماغ لتحسين حياتك اليومية. البداية قد تكون بسيطة كتغيير وجبة إفطارك وإضافة طبق سلطة يومي أو ممارسة تمارين تنفس لبضع دقائق صباحًا، ولكن الأثر التراكمي سيكون ملموسًا على مدى أسابيع وأشهر في شكل هضم أفضل ومزاج أصفى وطاقة أعلى.
خاتمة: رسالة ملهمة عن وحدة الجسد والعقل
في الختام، تكشف لنا الأبحاث الحديثة يومًا بعد يوم عن أهمية الترابط العميق بين الجسد والمزاج. لم نعد ننظر إلى العقل بمعزل عن سائر الجسد، بل بتنا ندرك أنه مرآة تنعكس عليها أحوال الجسم بما في ذلك أحوال أمعائنا الدقيقة. إن محور الأمعاء-الدماغ ليس مجرد مفهوم علمي غامض، بل هو تذكير بأننا ككائنات بشرية عبارة عن منظومة متكاملة؛ فكما تؤثر أفكارنا ومشاعرنا على نبضات قلوبنا وإفراز هرموناتنا، تؤثر حالة أمعائنا وميكروباتها على صفاء أذهاننا وتوازن عواطفنا. هذه النظرة الموحّدة للجسم والعقل تمنحنا أملًا وأدوات جديدة للعناية بالصحة النفسية والجسدية سويًا.
الرسالة الملهمة هنا هي أن بيد كل واحد منا قدرًا من التحكم والتأثير على مزاجه وصحته النفسية من خلال العناية بصحة جسده – أمعائه خاصةً. قد يكون مجرد تعديل بسيط في روتينك اليومي – كتناول وجبة صحية أو المشي في الطبيعة أو ممارسة التأمل قبل النوم – سببًا في تغيير ملحوظ في شعورك بالسعادة والراحة النفسية. ومع كل بحث علمي جديد يتأكد لنا أن “دواؤك في غذائك وحياتك” وليس فقط في علبة دواء؛ نمط حياتك قد يكون الخط الفاصل بين مزاج مكتئب مضطرب وآخر متوازن منشرح. بالطبع، ستظل هناك تحديات وضغوط في حياتنا، لكن امتلاكنا لفهم أوضح لكيفية استجابة أجسامنا لتلك التحديات يمنحنا قوة أكبر على التكيف والصمود.
فلنجعل من عنايتنا بصحة أمعائنا بوابةً لعقلٍ أكثر إشراقًا وروحٍ أكثر هدوءًا. قد تبدأ الرحلة بخطوات صغيرة كما ذكرنا، ولكن تأثيرها سيتراكم ليخلق تحولًا إيجابيًا تشعر به أنت ويلاحظه من حولك. تذكّر أن جسمك ونفسك حليفان وليسا عدوّين؛ اعتنِ بهذا الحليف الداخلي، واستمع لصوت أمعائك وجسدك كما تستمع لصوت عقلك. عندها فقط ستختبر معنى التوازن الحقيقي، وسيتسع وعيك بأهمية الوحدة والتناغم بين مكوناتك الجسدية والنفسية. هذه الوحدة هي مفتاح العافية، وبها ننهي بحثنا آملين أن تكون قد ألهمتك لترى جسدك وعقلك كشركاء في رحلتك نحو حياة أكثر صحة وسعادة.
المصادر العلمية المستخدمة: الأبحاث والمراجعات المذكورة أعلاه جميعها منشورة في دوريات علمية محكّمة وذات موثوقية عالية، منها Nature Communications (2025) ، وTranslational Psychiatry (Nature, 2022) ، ومجلة EBioMedicine (The Lancet, 2023) ، ومجلة Brain, Behavior, & Immunity - Health (2023) ، وسلسلة Frontiers in Microbiology (2025) ، ودورية Brain and Behavior (2025) ، إضافة لمجلة Psychosomatic Medicine (2019) وغيرها، إلى جانب تقارير صادرة عن جامعات ومراكز بحثية رائدة مثل كلية الطب بجامعة هارفارد .